الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ الشرح: قوله (باب الفتنة التي تموج كموج البحر) كأنه يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عاصم ابن ضمرة عن علي قال " وضع الله في هذه الأمة خمس فتن " فذكر الأربعة ثم فتنة تموج كموج البحر وهي التي يصبح الناس فيها كالبهائم أي لا عقول لهم، ويؤيده حديث أبي موسى " تذهب عقول أكثر ذلك الزمان " وأخرج ابن أبي شيبة من وجه آخر عن حذيفة قال " لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك؛ إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل". قوله (وقال ابن عيينة) هو سفيان، وقد وصله البخاري في التاريخ الصغير عن عبد الله بن محمد المسندي " حدثنا سفيان بن عيينة". قوله (عن خلف بن حوشب) بمهملة ثم معجمة ثم موحدة بوزن جعفر، وخلف كان من أهل الكوفة روى عن جماعة من كبار التابعين وأدرك بعض الصحابة لكن لم أجد له رواية عن صحابي، وكان عابدا. وثقه العجلي. وقال النسائي لا بأس به، وأثنى عليه ابن عيينة والربيع بن أبي راشد، وروى عنه أيضا شعبة، وليس له في البخاري إلا هذا الموضع. قوله (كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن) أي عند نزولها. قوله (قال امرؤ القيس) كذا وقع عند أبي ذر في نسخة، والمحفوظ أن الأبيات المذكورة لعمرو ابن معد يكرب الزبيدي كما جزم به أبو العباس المبرد في الكامل، وكذا رويناه في " كتاب الغرر من الأخبار " لأبي بكر خمد بن خلف القاضي المعروف بوكيع قال " حدثنا معدان بن علي حدثنا عمرو بن محمد الناقد حدثنا سفيان بن عيينة عن خلف بن حوشب قال قال عمرو بن معد يكرب " وبذلك جزم السهيلي في " الروض " ووقع لنا موصولا من وجه آخر وفيه زيادة رويناه في " فوائد الميمون بن حمزة المصري " عن الطحاوي فيما زاده في السنن التي رواها عن المزني عن الشافعي فقال " حدثنا المزني حدثنا الحميدي عن سفيان عن خلف بن حوشب قال قال عيسى بن مريم للحواريين كما ترك لكم الملوك الحكمة فاتركوا لهم الدنيا " وكان خلف يقول ينبغي للناس أن يتعلموا هذه الأبيات في الفتنة. قوله (الحرب أول ما تكون فتية) بفتح الفاء وكسر المثناة وتشديد التحتانية أي شابة، حكى ابن التين عن سيبويه الحرب مؤنثة وعن المبرد قد تذكر وأنشد له شاهدا قال: وبعضهم يرفع " أول وفتية " لأنه مثل، ومن نصب أول قال إنه الخبر، ومنهم من قدره الحرب أول ما تكون أحوالها إذا كانت فتية، ومنهم من أعرب أول حالا " وقال غيره يجوز فيه أربعة أوجه رفع أول ونصب فتية وعكسه ورفعهما جميعا ونصبهما فمن رفع أول ونصب فتية فتقديره الحرب أول أحوالها إذا كانت فتية فالحرب مبتدأ وأول مبتدأ ثان وفتية حال سدت مسد الخبر والجملة خبر الحرب، ومن عكس فتقديره الحرب في أول أحوالها فتية فالحرب مبتدأ وفتية خبرها وأول منصوب على الظرف، ومن رفعهما فالتقدير الحرب أول أحوالها فأول مبتدأ ثان أو بدل من الحرب وفتية خبر، ومن نصبهما جعل أول ظرفا وفتية حالا والتقدير الحرب في أول أحوالها إذا كانت فتية وتسعى خبر عنها، أي الحرب في حال ما هي فتية أي في وقت وقوعها يفر من لم يجربها حتى يدخل فيها فتهلكه. قوله (بزينتها) كذا فيه من الزينة، ورواه سيبويه ببزتها بموحدة وزاي مشددة والبزة اللباس الجيد. قوله (إذا اشتعلت) بشين معجمة وعين مهملة كناية عن هيجانها، ويجوز في " إذا " أن تكون ظرفية وأن تكون شرطية والجواب ولت، وقوله "وشب ضرامها " هو بضم الشين المعجمة ثم موحدة تقول شبت الحرب إذا اتقدت وضرامها بكسر الضاد المعجمة أي اشتعالها. قوله (ذات حليل) بحاء مهملة والمعنى أنها صارت لا يرغب أحد في تزويجها، ومنهم من قاله بالخاء المعجمة. قوله (شمطاء) بالنصب هو وصف العجوز، والشمط بالشين المعجمة اختلاط الشعر الأبيض بالشعر الأسود. وقال الداودي، هو كناية عن كثرة الشيب. وقوله "ينكر لونها " أي يبدل حسنها بقبح. ووقع في رواية الحميدي " شمطاء جزت رأسها " بدل قوله " ينكر لونها " وكذلك أنشده السهيلي في الروض. وقوله "مكروهة للشم والتقبيل " يصف فاها بالبخر مبالغة في التنفير منها، والمراد بالتمثل بهذه الأبيات استحضار ما شاهدوه وسمعوه من حال الفتنة، فإنهم يتذكرون بإنشادها ذلك فيصدهم عن الدخول فيها حتى لا يغتروا بظاهر أمرها أولا. ثم ذكر فيه ثلاثة أحاديث: الحديث: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ عُمَرَ إِذْ قَالَ أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتْنَةِ قَالَ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ وَلَكِنْ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ قَالَ لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا قَالَ عُمَرُ أَيُكْسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ قَالَ بَلْ يُكْسَرُ قَالَ عُمَرُ إِذًا لَا يُغْلَقَ أَبَدًا قُلْتُ أَجَلْ قُلْنَا لِحُذَيْفَةَ أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ قَالَ نَعَمْ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً وَذَلِكَ أَنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنْ الْبَابُ فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ مَنْ الْبَابُ قَالَ عُمَرُ الشرح: أحدها حديث حذيفة. قوله (حدثنا شقيق) هو أبو وائل بن سلمة الأسدي، وقد تقدم في الزكاة من طريق جرير عن الأعمش عن أبي وائل. قوله (سمعت حذيفة يقول: بينا نحن جلوس عند عمر) تقدم شرحه مستوفى في علامات النبوة، وسياقه هناك أتم. وخالف أبو حمزة السكري أصحاب الأعمش فقال " عن أبي وائل عن مسروق قال: قال عمر " وقوله هنا " ليس عن هذا أسألك " وقع في رواية ربعي بن حراش عن حذيفة عند الطبراني " لم أسأل عن فتنة الخاصة " وقوله " ولكن التي تموج كموج البحر، فقال: ليس عليك منها بأس " في رواية الكشميهني " عليكم " بصيغة الجمع، ووقع في رواية ربعي، فقال حذيفة " سمعته يقول: يأتيكم بعدي فتن كموج البحر يدفع بعضها بعضا " فيؤخذ منه جهة التشبيه بالموج وأنه ليس المراد به الكثرة فقط، وزاد في رواية ربعي " فرفع عمر يده فقال: اللهم لا تدركني، فقال حذيفة: لا تخف " وقوله " إذا لا يغلق أبدا؟ قلت: أجل " في رواية ربعي " قال حذيفة كسرا ثم لا يغلق إلى يوم القيامة". قوله (كما يعلم أن دون غد ليلة) أي علمه علما ضروريا مثل هذا " قال ابن بطال: إنما عدل حذيفة حين سأله عمر عن الإخبار بالفتنة الكبرى إلى الإخبار بالفتنة الخاصة لئلا يغم ويشتغل باله، ومن ثم قال له " إن بينك وبينها بابا مغلقا " ولم يقل له أنت الباب وهو يعلم أنه الباب فعرض له بما فهمه ولم يصرح وذلك من حسن أدبه. وقول عمر " إذا كسر لم يغلق " أخذه من جهة أن الكسر لا يكون إلا غلبة والغلبة لا تقع إلا في الفتنة، وعلم من الخبر النبوي أن بأس الأمة بينهم واقع، وأن الهرج لا يزال إلى يوم القيامة كما وقع في حديث شداد رفعه " إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة". قلت: أخرجه الطبري وصححه ابن حبان. وأخرج الخطيب في " الرواة عن مالك " أن عمر دخل على أم كلثوم بنت علي فوجدها تبكي فقال: ما يبكيك؟ قالت: هذا اليهودي - لكعب الأحبار - يقول: إنك باب من أبواب جهنم، فقال عمر: ما شاء الله. ثم خرج فأرسل إلى كعب فجاءه فقال: يا أمير المؤمنين، والذي نفسي بيده لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة. فقال: ما هذا، مرة في الجنة ومرة في النار؟ فقال: إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقتحموا فيها، فإذا مت اقتحموا. قوله (فأمرنا مسروقا) احتج به من قال إن الأمر لا يشترط فيه العلو ولا الاستعلاء. الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا إِلَى حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ الْمَدِينَةِ لِحَاجَتِهِ وَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِ فَلَمَّا دَخَلَ الْحَائِطَ جَلَسْتُ عَلَى بَابِهِ وَقُلْتُ لَأَكُونَنَّ الْيَوْمَ بَوَّابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْنِي فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَضَى حَاجَتَهُ وَجَلَسَ عَلَى قُفِّ الْبِئْرِ فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلَّاهُمَا فِي الْبِئْرِ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ لِيَدْخُلَ فَقُلْتُ كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ فَوَقَفَ فَجِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ قَالَ ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَدَخَلَ فَجَاءَ عَنْ يَمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلَّاهُمَا فِي الْبِئْرِ فَجَاءَ عُمَرُ فَقُلْتُ كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَجَاءَ عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ فَدَلَّاهُمَا فِي الْبِئْرِ فَامْتَلَأَ الْقُفُّ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَجْلِسٌ ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَقُلْتُ كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ مَعَهَا بَلَاءٌ يُصِيبُهُ فَدَخَلَ فَلَمْ يَجِدْ مَعَهُمْ مَجْلِسًا فَتَحَوَّلَ حَتَّى جَاءَ مُقَابِلَهُمْ عَلَى شَفَةِ الْبِئْرِ فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ ثُمَّ دَلَّاهُمَا فِي الْبِئْرِ فَجَعَلْتُ أَتَمَنَّى أَخًا لِي وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَأْتِيَ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ فَتَأَوَّلْتُ ذَلِكَ قُبُورَهُمْ اجْتَمَعَتْ هَا هُنَا وَانْفَرَدَ عُثْمَانُ الشرح: قوله (عن شريك بن عبد الله) هو بن أبي نمر. ولم يخرج البخاري عن شريك بن عبد الله النخعي القاضي شيئا. قوله (خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حائط من حوائط المدينة لحاجته) تقدم اسم الحائط المذكور مع شرح الحديث في مناقب أبي بكر، وقوله هنا " لأكونن اليوم بواب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرني " قال الداودي في الرواية الأخرى " أمرني بحفظ الباب " وهو اختلاف ليس المحفوظ إلا أحدهما، وتعقب بإمكان الجمع بأنه فعل ذلك ابتداء من قبل نفسه فلما استأذن أولا لأبي بكر وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن له ويبشره بالجنة وافق ذلك اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لحفظ الباب عليه لكونه كان في حال خلوة وقد كشف عن ساقه ودلى رجليه فأمره بحفظ الباب، فصادف أمره ما كان أبو موسى ألزم نفسه به قبل الأمر. ويحتمل أن يكون أطلق الأمر على التقرير وقد مضى شيء من هذا في مناقب أبي بكر. وقوله هنا " وجلس على قف البئر " في رواية غير الكشميهني " في " بدل " على " والقف ما ارتفع من متن البئر. وقال الداودي: ما حول البئر. قلت: والمراد هنا مكان يبنى حول البئر للجلوس، والقف أيضا الشيء اليابس، وفي أودية المدينة واد يقال له القف وليس مرادا هنا. وقوله "فدخل فجاء عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم " في رواية الكشميهني " فجلس " بدل " فجاء " وقوله " فامتلأ القف " في رواية الكشميهني " وامتلأ " بالواو، والمراد من تخريجه هنا الإشارة إلى أن قوله في حق عثمان " بلاء يصيبه " هو ما وقع له من القتل الذي نشأت عنه الفتن الواقعة بين الصحابة في الجمل ثم في صفين وما بعد ذلك. قال ابن بطال: إنما خص عثمان بذكر البلاء مع أن عمر قتل أيضا لكون عمر لم يمتحن بمثل ما امتحن عثمان من تسلط القوم الذين أرادوا منه أن ينخلع من الإمامة بسبب ما نسبوه إليه من الجور والظلم مع تنصله من ذلك واعتذاره عن كل ما أوردوه عليه ثم هجومهم عليه داره وهتكهم ستر أهله، وكل ذلك زيادة على قتله. قلت: وحاصله أن المراد بالبلاء الذي خص به الأمور الزائدة على القتل وهو كذلك. قوله (قال فتأولت ذلك قبورهم) في رواية الكشميهني " فأولت " قال الداودي: كان سعيد ابن المسيب لجودته في عبارة الرؤيا يستعمل التعبير فيما يشبهها. قلت: ويؤخذ منه أن التمثيل لا يستلزم التسوية، فإن المراد بقوله " اجتمعوا " مطلق الاجتماع لا خصوص كون أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله كما كانوا على البئر، وكذا عثمان انفرد قبره عنهم ولم يستلزم أن يكون مقابلهم. الحديث: حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ قِيلَ لِأُسَامَةَ أَلَا تُكَلِّمُ هَذَا قَالَ قَدْ كَلَّمْتُهُ مَا دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَفْتَحُهُ وَمَا أَنَا بِالَّذِي أَقُولُ لِرَجُلٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَمِيرًا عَلَى رَجُلَيْنِ أَنْتَ خَيْرٌ بَعْدَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يُجَاءُ بِرَجُلٍ فَيُطْرَحُ فِي النَّارِ فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ إِنِّي كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا أَفْعَلُهُ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ الشرح: قوله (عن سليمان) هو الأعمش. وفي رواية أحمد عن محمد بن جعفر، عن شعبة عن سليمان ومنصور وكذا للإسماعيلي عن القاسم بن زكريا عن بشر بن خالد شيخ البخاري فيه لكنه ساقه على لفظ سليمان وقال في آخره " قال شعبة وحدثني منصور عن أبي وائل عن أسامة " نحوا منه إلا أنه زاد فيه " فتندلق أقتاب بطنه". قوله (قيل لأسامة: ألا تكلم هذا؟) كذا هنا بإبهام القائل وإبهام المشار إليه، وتقدم في صفة النار من بدء الخلق من طريق سفيان بن عيينة عن الأعمش بلفظ " لو أتيت فلانا فكلمته " وجزاء الشرط محذوف والتقدير لكان صوابا، ويحتمل أن تكون " لو " للتمني ووقع اسم المشار إليه عند مسلم من رواية أبي معاوية عن الأعمش عن شقيق عن أسامة " قيل له ألا تدخل على عثمان فتكلمه " ولأحمد عن يعلى بن عبيد عن الأعمش " ألا تكلم عثمان". قوله (قد كلمته ما دون أن أفتح بابا) أي كلمته فيما أشرتم إليه، لكن على سبيل المصلحة والأدب في السر بغير أن يكون في كلامي ما يثير فتنة أو نحوها. وما موصوفة ويجوز أن تكون موصولة. قوله (أكون أول من يفتحه) في رواية الكشميهني " فتحه " بصيغة الفعل الماضي وكذا في رواية الإسماعيلي؛ وفي رواية سفيان " قال إنكم لترون - أي تظنون - أني لا أكلمه إلا أسمعتكم " أي إلا بحضوركم، وسقطت الألف من بعض النسخ فصار بلفظ المصدر أي إلا وقت حضوركم حيث تسمعون وهي رواية يعلى بن عبيد المذكورة، وقوله في رواية سفيان " إني أكلمه في السر دون أن أفتح بابا لا أكون أول من فتحه " عند مسلم مثله لكن قال بعد قوله إلا أسمعتكم " والله لقد كلمته فيما بيني وبينه دون أن أفتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه " يعني لا أكلمه إلا مع مراعاة المصلحة بكلام لا يهيج به فتنة. قوله (وما أنا بالذي أقول لرجل بعد أن يكون أميرا على رجلين أنت خير) في رواية الكشميهني " إيت خيرا " بصيغة فعل الأمر من الإيتاء ونصب خيرا على المفعولية، والأول أولى فقد وقع في رواية سفيان " ولا أقول لأمير إن كان على أميرا " هو بكسر همزة إن ويجوز فتحها وقوله " كان على - بالتشديد - أميرا أنه خير الناس " وفي رواية أبي معاوية عند مسلم " يكون على أميرا " وفي رواية يعلى " وإن كان على أميرا". قوله (بعدما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يجاء برجل) في رواية سفيان " بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وما سمعته يقول؟ قال سمعته يقول: يجاء بالرجل " وفي رواية عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عند أحمد " يجاء بالرجل الذي كان يطاع في معاصي الله فيقذف في النار". قوله (فيطحن فيها كطحن الحمار) في رواية الكشميهني " كما يطحن الحمار " كذا رأيت في نسخة معتمدة " فيطحن " بضم أوله على البناء للمجهول، وفي أخرى بفتح أوله وهو أوجه، فقد تقدم في رواية سفيان وأبي معاوية " فتندلق أقتابه فيدور كما يدور الحمار " وفي رواية عاصم " يستدير فيها كما يستدير الحمار " وكذا في رواية أبي معاوية. والإقتاب جمع قتب بكسر القاف وسكون المثناة بعدها موحدة هي الأمعاء، واندلاقها خروجها بسرعة يقال اندلق السيف من غمده إذا خرج من غير أن يسله أحد، وهذا يشعر بأن هذه الزيادة كانت أيضا عند الأعمش فلم يسمعها شعبة منه وسمع معناها من منصور كما تقدم. قوله (فيطيف به أهل النار) أي يجتمعون حوله، يقال أطاف به القوم إذا حلقوا حوله حلقة وإن لم يدوروا، وطافوا إذا داروا حوله، وبهذا التقرير يظهر خطأ من قال إنهما بمعنى واحد. وفي رواية سفيان وأبي معاوية " فيجتمع عليه أهل النار " وفي رواية عاصم " فيأتي عليه أهل طاعته من الناس". قوله (فيقولون أي فلان) في رواية سفيان وأبي معاوية " فيقولون يا فلان " وزاد " ما شأنك " وفي رواية عاصم " أي قل، أين ما كنت تأمرنا به "؟ . قوله (ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى) في رواية سفيان " أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا "؟ قوله (إني كنت آمر بالمعروف ولا أفعله وأنهى عن المنكر وأفعله) في رواية سفيان " آمركم وأنهاكم " وله ولأبي معاوية " وآتيه ولا آتيه " وفي رواية يعلى " بل كنت آمر " وفي رواية عاصم " وإني كنت آمركم بأمر وأخالفكم إلى غيره " قال المهلب: أرادوا من أسامة أن يكلم عثمان وكان من خاصته وممن يخف عليه في شأن الوليد بن عقبة لأنه كان ظهر عليه ريح نبيذ وشهر أمره وكان أخا عثمان لأمه وكان يستعمله، فقال أسامة: قد كلمته سرا دون أن أفتح بابا، أي باب الإنكار على الأئمة علانية خشية أن تفترق الكلمة. ثم عرفهم أنه لا يداهن أحدا ولو كان أميرا بل ينصح له في السر جهده، وذكر لهم قصة الرجل الذي يطرح في النار لكونه كان يأمر بالمعروف ولا يفعله ليتبرأ مما ظنوا به من سكوته عن عثمان في أخيه انتهى ملخصا. وجزمه بأن مراد من سأل أسامة الكلام مع عثمان أن يكلمه في شأن الوليد ما عرفت مستنده فيه، وسياق مسلم من طريق جرير عن الأعمش يدفعه، ولفظه عن أبي وائل " كنا عند أسامة بن زيد فقال له رجل: ما يمنعك أن تدخل على عثمان فتكلمه فيما يصنع " قال وساق الحديث بمثله، وجزم الكرماني بأن المراد أن يكلمه فيما أنكره الناس على عثمان من تولية أقاربه وغير ذلك مما اشتهر، وقوله إن السبب في تحديث أسامة بذلك ليتبرأ مما ظنوه به ليس بواضح، بل الذي يظهر أن أسامة كان يخشى على من ولى ولاية ولو صغرت أنه لا بد له من أن يأمر الرعية بالمعروف وينهاهم عن المنكر ثم لا يأمن من أن يقع منه تقصير، فكان أسامة يرى أنه لا يتأمر على أحد، وإلى ذلك أشار بقوله " لا أقول للأمير إنه خير الناس " أي بل غايته أن ينجو كفافا. وقال عياض: مراد أسامة أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطف به وينصحه سرا فذلك أجدر بالقبول. وقوله "لا أقول لأحد يكون على أميرا إنه خير الناس " فيه ذم مداهنة الأمراء في الحق وإظهار ما يبطن خلافه كالمتملق بالباطل، فأشار أسامة إلى المداراة المحمودة والمداهنة المذمومة، وضابط المداراة أن لا يكون فيها قدح في الدين، والمداهنة المذمومة أن يكون فيها تزيين القبيح وتصويب الباطل ونحو ذلك. وقال الطبري: اختلف السلف في الأمر بالمعروف، فقالت طائفة يجب مطلقا واحتجوا بحديث طارق بن شهاب رفعه " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " وبعموم قوله " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده " الحديث. وقال بعضهم: يجب إنكار المنكر، لكن شرطه أن لا يلحق المنكر بلاء لا قبل له به من قتل ونحوه. وقال آخرون: ينكر بقلبه لحديث أم سلمة مرفوعا " يستعمل عليكم أمراء بعدي، فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع " الحديث قال: والصواب اعتبار الشرط المذكور ويدل عليه حديث " لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه " ثم فسره بأن يتعرض من البلاء لما لا يطيق انتهى ملخصا. وقال غيره: يجب الأمر بالمعروف لمن قدر عليه ولم يخف على نفسه منه ضررا ولو كان الآمر متلبسا بالمعصية، لأنه في الجملة يؤجر على الأمر بالمعروف ولا سيما إن كان مطاعا، وأما إثمه الخاص به فقد يغفره الله له وقد يؤاخذه به، وأما من قال: لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة، فإن أراد أنه الأولى فجيد وإلا فيستلزم سد باب الأمر إذا لم يكن هناك غيره. ثم قال الطبري: فإن قيل كيف صار المأمورون بالمعروف في حديث أسامة المذكور في النار؟ والجواب أنهم لم يمتثلوا ما أمروا به فعذبوا بمعصيتهم وعذب أميرهم بكونه كان يفعل ما ينهاهم عنه، وفي الحديث تعظيم الأمراء والأدب معهم وتبليغهم ما يقول الناس فيهم ليكفوا ويأخذوا حذرهم بلطف وحسن تأدية بحيث يبلغ المقصود من غير أذية للغير. الحديث: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ أَيَّامَ الْجَمَلِ لَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى قَالَ لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً الشرح: قوله (عوف) هو الأعرابي، والحسن هو البصري، والسند كله بصريون، وقد تقدم القول في سماع الحسن من أبي بكرة في كتاب الصلح، وقد تابع عوفا حميد الطويل عن الحسن أخرجه البزار وقال: رواه عن الحسن جماعة وأحسنها إسنادا رواية حميد. قوله (لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل) في رواية حميد " عصمني الله بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقد جمع عمر بن شبة في " كتاب أخبار البصرة " قصة الجمل مطولة، وها أنا ألخصها وأقتصر على ما أورده بسند صحيح أو حسن وأبين ما عداه، فأخرج من طريق عطية بن سفيان الثقفي عن أبيه قال: لما كان الغد من قتل عثمان أقبلت مع علي فدخل المسجد فإذا جماعة علي وطلحة فخرج أبو جهم ابن حذيفة فقال: يا على ألا ترى؟ فلم يتكلم، ودخل بيته فأتى بثريد فأكل ثم قال: يقتل ابن عمي ونغلب على ملكه؟ فخرج إلى بيت المال ففتحه، فلما تسامع الناس تركوا طلحة. ومن طريق مغيرة عن إبراهيم عن علقمة قال: قال الأشتر رأيت طلحة والزبير بايعا عليا طائعين غير مكرهين. ومن طريق أبي نضرة قال: كان طلحة يقول إنه بايع وهو مكره. ومن طريق داود بن أبي هند عن الشعبي قال: لما قتل عثمان أتى الناس عليا وهو في سوق المدينة فقالوا له ابسط يدك نبايعك، فقال: حتى يتشاور الناس. فقال بعضهم: لئن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان ولم يقم بعده قائم لم يؤمن الاختلاف وفساد الأمة: فأخذ الأشتر بيده فبايعوه. ومن طريق ابن شهاب قال: لما قتل عثمان وكان على خلا بينهم، فلما خشي أنهم يبايعون طلحة دعا الناس إلى بيعته فلم يعدلوا به طلحة ولا غيره، ثم أرسل إلى طلحة والزبير فبايعاه. ومن طريق ابن شهاب أن طلحة والزبير استأذنا عليا في العمرة، ثم خرجا إلى مكة فلقيا عائشة فاتفقوا على الطلب بدم عثمان حتى يقتلوا قتلته. ومن طريق عوف الأعرابي قال: استعمل عثمان يعلى بن أمية على صنعاء وكان عظيم الشأن عنده، فلما قتل عثمان وكان يعلى قدم حاجا فأعان طلحة والزبير بأربعمائة ألف، وحمل سبعين رجلا من قريش، واشترى لعائشة جملا يقال له عسكر بثمانين دينارا. ومن طريق عاصم بن كليب عن أبيه قال قال علي: أتدرون بمن بليت؟ أطوع الناس في الناس عائشة، وأشد الناس الزبير، وأدهى الناس طلحة، وأيسر الناس يعلى بن أمية. ومن طريق ابن أبي ليلى قال: خرج علي في آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين ومن طريق محمد بن علي بن أبي طالب قال: سار علي من المدينة ومعه تسعمائة راكب فنزل بذي قار. ومن طريق قيس بن أبي حازم قال: لما أقبلت عائشة فنزلت بعض مياه بني عامر نبحت عليها الكلاب فقالت: أي ماء هذا؟ قالوا: الحوأب - بفتح الحاء المهملة وسكون الواو بعدها همزة ثم موحدة - قالت ما أظنني إلا راجعة، فقال لها بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم، فقالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنا ذات يوم: كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب. وأخرج هذا أحمد وأبو يعلى والبزار وصححه ابن حبان والحاكم وسنده على شرط الصحيح. وعند أحمد: فقال لها الزبير، تقدمين فذكره. ومن طريق عصام بن قدامة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه: أيتكن صاحبة الجمل الأدبب - بهمزة مفتوحة ودال ساكنة ثم موحدتين الأولى مفتوحة - تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها وعن شمالها قتلى كثيرة وتنجو من بعدما كادت. وهذا رواه البزار ورجاله ثقات. وأخرج البزار من طريق زيد بن وهب قال: بينا نحن حول حذيفة إذ قال: كيف أنتم وقد خرج أهل بيت نبيكم فرقتين يضرب بعضكم وجوه بعض بالسيف؟ قلنا: يا أبا عبد الله فكيف نصنع إذا أدركنا ذلك؟ قال: انظروا إلى الفرقة التي تدعو إلى أمر علي بن أبي طالب فإنها على الهدى. وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس قال: بلغ أصحاب علي حين ساروا معه أن أهل البصرة اجتمعوا بطلحة والزبير فشق عليهم ووقع في قلوبهم، فقال علي: والذي لا إله غيره لنظهرن على أهل البصرة ولنقتلن طلحة والزبير الحديث، وفي سنده إسماعيل بن عمرو البجلي وفيه ضعف. وأخرج الطبراني من طريق محمد بن قيس قال: ذكر لعائشة يوم الجمل قالت: والناس يقولون يوم الجمل؟ قالوا: نعم. قالت: وددت أني جلست كما جلس غيري فكان أحب إلي من أن أكون ولدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة كلهم مثل عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام. وفي سنده أبو معشر نجيح المدني وفيه ضعف. وأخرج إسحاق بن راهويه من طريق سالم المرادي سمعت الحسن يقول: لما قدم على البصرة في أمر طلحة وأصحابه قام قيس بن عباد وعبد الله بن الكواء فقالا له: أخبرنا عن مسيرك هذا فذكر حديثا طويلا في مبايعته أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم ذكر طلحة والزبير فقال: بايعاني بالمدينة وخالفاني بالبصرة، ولو أن رجلا ممن بايع أبا بكر خالفه لقاتلناه. وكذلك عمر. وأخرج أحمد والبزار بسند حسن من حديث أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب: إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر، قال: فأنا أشقاهم يا رسول الله؟ قال: لا ولكن إذا كان ذلك فأرددها إلى مأمنها. وأخرج إسحاق من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن عبد السلام رجل من حيه قال: خلا علي بالزبير يوم الجمل فقال: أنشدك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وأنت لاوي يدي: لتقاتلنه وأنت ظالم له ثم لينصرن عليك؟ قال: قد سمعت، لا جرم لا أقاتلك. وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة من طريق عمر ابن هجنع - بفتح الهاء والجيم وتشديد النون بعدها مهملة - عن أبي بكرة وقيل له: ما منعك أن تقاتل مع أهل البصرة يوم الجمل؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج قوم هلكى لا يفلحون قائدهم امرأة في الجنة. فكأن أبا بكرة أشار إلى هذا الحديث فامتنع من القتال معهم، ثم استصوب رأيه في ذلك الترك لما رأى غلبة علي. وقد أخرج الترمذي والنسائي الحديث المذكور من طريق حميد الطويل عن الحسن البصري عن أبي بكرة بلفظ " عصمني الله بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكر الحديث قال " فلما قدمت عائشة ذكرت ذلك فعصمني الله " وأخرج عمر بن شبة من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن أن عائشة أرسلت إلى أبي بكرة فقال: إنك لأم، وإن حقك لعظيم، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لن يفلح قوم تملكهم امرأة. قوله (لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارسا) قال ابن مالك: كذا وقع مصروفا والصواب عدم صرفه. وقال الكرماني هو يطلق على الفرس وعلى بلادهم، فعلى الأول يصرف إلا أن يراد القبيلة، وعلى الثاني يجوز الأمران كسائر البلاد انتهى. وقد جوز بعض أهل اللغة صرف الأسماء كلها. قوله (ملكوا ابنة كسرى) في رواية حميد " لما هلك كسرى قال النبي صلى الله عليه وسلم: من استخلفوا؟ قالوا: ابنته". قوله (لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة) بالنصب على المفعولية. وفي رواية حميد " ولي أمرهم امرأة " بالرفع على أنها الفاعل، وكسرى المذكور هو شيرويه بن أبرويز بن هرمز، واسم ابنته المذكورة بوران. وقد تقدم في آخر المغازي في " باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى " شرح ذلك. وقوله "ولوا أمرهم امرأة " زاد الإسماعيلي من طريق النضر بن شميل عن عوف في آخره " قال أبو بكرة: فعرفت أن أصحاب الجمل لن يفلحوا " ونقل ابن بطال عن المهلب أن ظاهر حديث أبي بكرة يوهم توهين رأى عائشة فيما فعلت. وليس كذلك لأن المعروف من مذهب أبي بكرة أنه كان على رأي عائشة في طلب الإصلاح بين الناس، ولم يكن قصدهم القتال، لكن لما انتشبت الحرب لم يكن لمن معها بد من المقاتلة، ولم يرجع أبو بكرة عن رأي عائشة وإنما تفرس بأنهم يغلبون لما رأى الذين مع عائشة تحت أمرها لما سمع في أمر فارس، قال: ويدل لذلك أن أحدا لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا عليا في الخلافة ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة، وإنما أنكرت هي ومن معها على منعه من قتل قتلة عثمان وترك الاقتصاص منهم، وكان على ينتظر من أولياء عثمان أن يتحاكموا إليه، فإذا ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتص منه، فاختلفوا بحسب ذلك، وخشي من نسب إليهم القتل أن يصطلحوا على قتلهم فأنشبوا الحرب بينهم إلى أن كان ما كان. فلما انتصر علي عليهم حمد أبو بكرة رأيه في ترك القتال معهم وإن كان رأيه كان موافقا لرأي عائشة في الطلب بدم عثمان. انتهى كلامه، وفي بعضه نظر يظهر مما ذكرته ومما سأذكره. وتقدم قريبا في " باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما " من حديث الأحنف أنه كان خرج لينصر عليا فلقيه أبو بكرة فنهاه عن القتال، وتقدم قبله بباب من قول أبي بكرة لما حرق ابن الحضرمي ما يدل على أنه كان لا يرى القتال في مثل ذلك أصلا فليس هو على رأي عائشة ولا على رأي علي في جواز القتال بين المسلمين أصلا، وإنما كان رأيه الكف وفاقا لسعد ابن أبي وقاص ومحمد ابن مسلمة وعبد الله بن عمر وغيرهم، ولهذا لم يشهد صفين مع معاوية ولا علي. قال ابن التين: احتج بحديث أبي بكرة من قال لا يجوز أن تولى المرأة القضاء وهو قول الجمهور، وخالف ابن جرير الطبري فقال يجوز أن تقضي فيما تقبل شهادتها فيه، وأطلق بعض المالكية الجواز. وقال ابن التين أيضا: كلام أبي بكرة يدل على أنه لولا عائشة لكان مع طلحة والزبير لأنه لو تبين له خطؤهما لكان مع علي. وكذا قال وأغفل قسما ثالثا وهو أنه كان يرى الكف عن القتال في الفتنة كما تقدم تقريره، وهذا هو المعتمد، ولا يلزم من كونه ترك القتال مع أهل بلده للحديث المذكور أن لا يكون مانعه من القتال سبب آخر وهو ما تقدم من نهيه الأحنف عن القتال واحتجاجه بحديث " إذا التقى المسلمان بسيفيهما " كما تقدم قريبا. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَرْيَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ الْأَسَدِيُّ قَالَ لَمَّا سَارَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ بَعَثَ عَلِيٌّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَقَدِمَا عَلَيْنَا الْكُوفَةَ فَصَعِدَا الْمِنْبَرَ فَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَوْقَ الْمِنْبَرِ فِي أَعْلَاهُ وَقَامَ عَمَّارٌ أَسْفَلَ مِنْ الْحَسَنِ فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ فَسَمِعْتُ عَمَّارًا يَقُولُ إِنَّ عَائِشَةَ قَدْ سَارَتْ إِلَى الْبَصْرَةِ وَ وَاللَّهِ إِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ابْتَلَاكُمْ لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَمْ هِيَ الشرح: حديث عمار في حق عائشة أخرجه من وجهين مطولا ومختصرا. قوله (حدثنا عبد الله بن محمد) هو الجعفي المسندي، وأبو حصين بفتح أوله هو عثمان بن عاصم، وأبو مريم المذكور أسدي كوفي هو وجميع رواة الإسناد إلا شيخه وشيخ البخاري، وقد وثق أبا مريم المذكور العجلي والدار قطني، وما له في البخاري إلا هذا الحديث. قوله (لما سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة) ذكر عمر بن شبة بسند جيد أنهم توجهوا من مكة بعد أن أهلت السنة، وذكر بسند له آخر أن الوقعة بينهم كانت في النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، وذكر من رواية المدائني عن العلاء أبي محمد عن أبيه قال: جاء رجل إلى علي وهو بالزاوية فقال: علام تقاتل هؤلاء؟ قال: على الحق، قال: فإنهم يقولون إنهم على الحق، قال: أقاتلهم على الخروج من الجماعة ونكث البيعة. وأخرج الطبري من طريق عاصم بن كليب الجرمي عن أبيه قال: رأيت في زمن عثمان أن رجلا أميرا مرض وعند رأسه امرأة والناس يريدونه فلو نهتهم المرأة لانتهوا ولكنها لم تفعل فقتلوه. ثم غزوت تلك السنة فبلغنا قتل عثمان، فلما رجعنا من غزاتنا وانتهينا إلى البصرة قيل لنا: هذا طلحة والزبير وعائشة فتعجب الناس وسألوهم عن سبب مسيرهم فذكروا أنهم خرجوا غضبا لعثمان وتوبة مما صنعوا من خذلانه. وقالت عائشة: غضبنا لكم على عثمان في ثلاث إمارة الفتى وضرب السوط والعصا فما أنصفناه إن لم نغضب له في ثلاث: حرمة الدم والشهر والبلد. قال فسرت أنا ورجلان من قومي إلى علي وسلمنا عليه وسألناه فقال: عدا الناس على هذا الرجل فقتلوه وأنا معتزل عنهم ثم ولوني ولولا الخشية على الدين لم أجبهم، ثم استأذنني الزبير وطلحة في العمرة فأخذت عليهما العهود وأذنت لهما فعرضا أم المؤمنين لما لا يصلح لها فبلغني أمرهم فخشيت أن ينفتق في الإسلام فتق فأتبعتهم، فقال أصحابه: والله ما نريد قتالهم إلا أن يقاتلوا، وما خرجنا إلا للإصلاح. فذكر القصة وفيها أن أول ما وقعت الحرب أن صبيان العسكرين تسابوا ثم تراموا ثم تبعهم العبيد ثم السفهاء فنشبت الحرب، وكانوا خندقوا على البصرة فقتل قوم وجرح آخرون، وغلب أصحاب علي ونادى مناديه: لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا جريحا ولا تدخلوا دار أحد، ثم جمع الناس وبايعهم واستعمل ابن عباس على البصرة ورجع إلى الكوفة. وأخرج ابن أبي شيبة بسند جيد عن عبد الرحمن بن أبزى قال: انتهى عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي إلى عائشة يوم الجمل وهي في الهودج فقال: يا أم المؤمنين أتعلمين أني أتيتك عندما قتل عثمان فقلت ما تأمريني، فقلت ألزم عليا؟ فسكتت. فقال: اعقروا الجمل فعقروه، فنزلت أنا وأخوها محمد فاحتملنا هودجها فوضعناه بين يدي علي، فأمر بها فأدخلت بيتا. وأخرج أيضا بسند صحيح عن زيد بن وهب قال فكف على يده حتى بدءوه بالقتال فقاتلهم بعد الظهر فما غربت الشمس وحول الجمل أحد، فقال علي: لا تتمموا جريحا ولا تقتلوا مدبرا ومن أغلق بابه وألقى سلاحه فهو أمن. وأخرج الشافعي من رواية علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال: دخلت على مروان بن الحكم فقال: ما رأيت أحدا أكرم غلبة من أبيك - يعني عليا - ما هو إلا أن ولينا يوم الجمل فنادى مناديه: لا يقتل مدبر ولا يذفف على جريح. وأخرج الطبري وابن أبي شيبة وإسحاق من طريق عمرو بن جاوان عن الأحنف قال: حججت سنة قتل عثمان فدخلت المدينة فذكر كلام عثمان في تذكيرهم بمناقبه، وقد تقدم في " باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما " ثم ذكر اعتزاله الطائفتين قال: ثم التقوا فكان أول قتيل طلحة ورجع الزبير فقتل. وأخرج الطبري بسند صحيح عن علقمة قال قلت للأشتر: قد كنت كارها لقتل عثمان فكيف قاتلت يوم الجمل؟ قال: إن هؤلاء بايعوا عليا ثم نكثوا عهده، وكان الزبير هو الذي حرك عائشة على الخروج فدعوت الله أن يكفينيه، فلقيني كفه بكفه فما رضيت لشدة ساعدي أن قمت في الركاب فضربته على رأسه ضربة فصرعته، فذكر القصة في أنهما سلما. قوله (بعث على عمار بن ياسر وحسن بن علي فقدما علينا الكوفة) ذكر عمر بن شبة والطبري سبب ذلك بسندهما إلى ابن أبي ليلى قال: كان علي أقر أبا موسى على إمرة الكوفة، فلما خرج من المدينة أرسل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إليه أن أنهض من قبلك من المسلمين وكن من أعواني على الحق، فاستشار أبو موسى السائب بن مالك الأشعري فقال: اتبع ما أمرك به، قال: إني لا أرى ذلك، وأخذ في تخذيل الناس عن النهوض، فكتب هاشم إلى علي بذلك وبعث بكتابه مع عقل بن خليفة الطائي، فبعث على عمار ابن ياسر والحسن بن علي يستنفران الناس، وأمر قرظة بن كعب على الكوفة، فلما قرأ كتابه على أبي موسى اعتزل ودخل الحسن وعمار المسجد. وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن زيد بن وهب قال: أقبل طلحة والزبير حتى نزلا البصرة فقبضا على عامل علي عليها ابن حنيف، وأقبل علي حتى نزل بذي قار، فأرسل عبد الله بن عباس إلى الكوفة فأبطؤوا عليه، فأرسل إليهم عمارا فخرجوا إليه. قوله (فصعد المنبر، فكان الحسن بن علي فوق المنبر في أعلاه وقام عمار أسفل من الحسن، فاجتمعنا إليه فسمعت عمارا يقول) زاد الإسماعيلي من وجه آخر عن أبي بكر بن عياش " صعد عمار المنبر فحض الناس في الخروج إلى قتال عائشة " وفي رواية إسحاق بن راهويه عن يحيى بن آدم بالسند المذكور " فقال عمار: إن أمير المؤمنين بعثنا إليكم لنستنفركم، فإن أمنا قد سارت إلى البصرة " وعند عمر بن شبة عن حبان ابن بشر عن يحيى بن آدم في حديث الباب " فكان عمار يخطب والحسن ساكت " ووقع في رواية ابن أبي ليلى في القصة المذكورة " فقال الحسن: إن عليا يقول إني أذكر الله رجلا رعى لله حقا إلا نفر، فإن كنت مظلوما أعانني وإن كنت ظالما أخذلني، والله إن طلحة والزبير لأول من بايعني ثم نكثا، ولم أستأثر بمال ولا بدلت حكما " قال فخرج إليه اثنا عشر ألف رجل. قوله (إن عائشة قد سارت إلى البصرة، ووالله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة؛ ولكن الله ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي) في رواية إسحاق " ليعلم أنطيعه أم إياها " وفي رواية الإسماعيلي من طريق أحمد بن يونس عن أبي بكر بن عياش بعد قوله قد سارت إلى البصرة " ووالله إني لأقول لكم هذا ووالله إنها لزوجة نبيكم " زاد عمر بن شبة في روايته " وأن أمير المؤمنين بعثنا إليكم وهو بذي قار " ووقع عند ابن أبي شيبة من طريق شمر بن عطية عن عبد الله بن زياد قال " قال عمار إن أمنا سارت مسيرها هذا، وإنها والله زوج محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلانا بها ليعلم إياه نطيع أو إياها " ومراد عمار بذلك أن الصواب في تلك القصة كان مع علي وأن عائشة مع ذلك لم تخرج بذلك عن الإسلام ولا أن تكون زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة. فكان ذلك يعد من إنصاف عمار وشدة ورعه وتحريه قول الحق. وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن أبي يزيد المديني قال " قال عمار بن ياسر لعائشة لما فرغوا من الجمل: ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليكم " يشير إلى قوله تعالى قالت: والله إنك ما علمت لقوال بالحق. قال: الحمد لله الذي قضى لي على لسانك. وقوله "ليعلم إياه تطيعون أم هي " قال بعض الشراح: الضمير في إياه لعلي، والمناسب أن يقال أم إياها لا هي، وأجاب الكرماني بأن الضمائر يقوم بعضها مقام بعض انتهى وهو على بعض الآراء. وقد وقع في رواية إسحاق بن راهويه في مسنده عن يحيى بن آدم بسند حديث الباب " ولكن الله ابتلانا بها ليعلم أنطيعه أم إياها " فظهر أن ذلك من تصرف الرواة وأما قوله إن الضمير في إياه لعلي فالظاهر خلافه، وأنه لله تعالى، والمراد إظهار المعلوم كما في نظائره. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي غَنِيَّةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَامَ عَمَّارٌ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ فَذَكَرَ عَائِشَةَ وَذَكَرَ مَسِيرَهَا وَقَالَ إِنَّهَا زَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَكِنَّهَا مِمَّا ابْتُلِيتُمْ الشرح: قوله (عن ابن أبي غنية) بفتح الغين المعجمة وكسر النون وتشديد التحتانية هو عبد الملك بن حميد، ماله في البخاري إلا هذا الحديث، وصرح بذلك أبو زرعة الدمشقي في روايته عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في مستخرجه، والحكم هو ابن عيينة، والسند كله كوفيون. قوله (قام عمار على منبر الكوفة) هذا طرف من الحديث الذي قبله، وأراد البخاري بإيراده تقوية حديث أبي مريم لكونه مما انفرد به عنه أبو حصين، وقله رواه أيضا عن الحكم شعبة أخرجه الإسماعيلي وزاد في أوله قال " لما بعث على عمارا والحسن إلى الكوفة يستنفرهم خطب عمار " فذكره قال ابن هبيرة: في هذا الحديث أن عمارا كان صادق اللهجة وكان لا تستخفه الخصومة إلى أن ينتقص خصمه، فإنه شهد لعائشة بالفضل التام مع ما بينهما من الحرب انتهى. وفيه جواز ارتفاع ذي الأمر فوق من هو أسن منه وأعظم سابقة في الإسلام وفضلا، لأن الحسن ولد أمير المؤمنين فكان حينئذ هو الأمير على من أرسلهم علي وعمار من جملتهم، فصعد الحسن أعلى المنبر فكان فوق عمار وإن كان في عمار من الفضل ما يقتضي رجحانه فضلا عن مساواته. ويحتمل أن يكون عمار فعل ذلك تواضعا مع الحسن وإكراما له من أجل جده صلى الله عليه وسلم وفعله الحسن مطاوعة له لا تكبرا عليه. الحديث: حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يَقُولُ دَخَلَ أَبُو مُوسَى وَأَبُو مَسْعُودٍ عَلَى عَمَّارٍ حَيْثُ بَعَثَهُ عَلِيٌّ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ يَسْتَنْفِرُهُمْ فَقَالَا مَا رَأَيْنَاكَ أَتَيْتَ أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدَنَا مِنْ إِسْرَاعِكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ مُنْذُ أَسْلَمْتَ فَقَالَ عَمَّارٌ مَا رَأَيْتُ مِنْكُمَا مُنْذُ أَسْلَمْتُمَا أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدِي مِنْ إِبْطَائِكُمَا عَنْ هَذَا الْأَمْرِ وَكَسَاهُمَا حُلَّةً حُلَّةً ثُمَّ رَاحُوا إِلَى الْمَسْجِدِ الشرح: حديث أبي موسى وأبي مسعود وعمار بن ياسر فيما يتعلق بوقعة الجمل أخرجه من طريقين. قوله (أخبرني عمرو) هو ابن مرة، وصرح به في رواية أحمد بن حنبل عن محمد بن جعفر وكذا الإسماعيلي في روايته من طريق عبد الله بن المبارك كلاهما عن شعبة. قوله (حيث بعثه على إلى أهل الكوفة يستنفرهم) في رواية الكشميهني " حين " بدل " حيث " وفي رواية الإسماعيلي " يستنفر أهل الكوفة إلى أهل البصرة". قوله (ما رأيناك أتيت أمرا أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر منذ أسلمت) زاد في الرواية الثانية أن الذي تولى خطاب عمار ذلك هو أبو مسعود وهو عقبة بن عمرو الأنصاري، وكان يومئذ يلي لعلي بالكوفة كما كان أبو موسى يلي لعثمان. قوله (وكساهما حلة) في رواية الإسماعيلي " فكساهما حلة حلة " وبين في الرواية التي تلي هذه أن فاعل كسا هو أبو مسعود، وهو في هذه الرواية محتمل فيحمل على ذلك. قوله (ثم راحوا إلى المسجد) في رواية الإسماعيلي " ثم خرجوا إلى الصلاة يوم الجمعة " وفي رواية محمد ابن جعفر " فقام أبو مسعود فبعث إلى كل واحد منهما حلة " قال ابن بطال: فيما دار بينهم دلالة على أن كلا من الطائفتين كان مجتهدا ويرى أن الصواب معه قال: وكان أبو مسعود موسرا جوادا، وكان اجتماعهم عند أبي مسعود في يوم الجمعة فكسا عمارا حلة ليشهد بها الجمعة لأنه كان في ثياب السفر وهيئة الحرب، فكره أن يشهد الجمعة في تلك الثياب وكره أن يكسوه بحضرة أبي موسى ولا يكسو أبا موسى فكسا أبا موسى أيضا. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَعَمَّارٍ فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ مَا مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ إِلَّا لَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ فِيهِ غَيْرَكَ وَمَا رَأَيْتُ مِنْكَ شَيْئًا مُنْذُ صَحِبْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيَبَ عِنْدِي مِنْ اسْتِسْرَاعِكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ قَالَ عَمَّارٌ يَا أَبَا مَسْعُودٍ وَمَا رَأَيْتُ مِنْكَ وَلَا مِنْ صَاحِبِكَ هَذَا شَيْئًا مُنْذُ صَحِبْتُمَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيَبَ عِنْدِي مِنْ إِبْطَائِكُمَا فِي هَذَا الْأَمْرِ فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ وَكَانَ مُوسِرًا يَا غُلَامُ هَاتِ حُلَّتَيْنِ فَأَعْطَى إِحْدَاهُمَا أَبَا مُوسَى وَالْأُخْرَى عَمَّارًا وَقَالَ رُوحَا فِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ الشرح: وقوله "أعيب " بالعين المهملة والموحدة أفعل تفضيل من العيب، وجعل كل منهم الإبطاء والإسراع عيبا بالنسبة لما يعتقده، فعمار لما في الإبطاء من مخالفة الإمام وترك امتثال (تنبيه) : وقع في رواية النسفي وكذا الإسماعيلي قبل سياق سند ابن أبي غنية " باب " بغير ترجمة، وسقط للباقين وهو الصواب لأن فيه الحديث الذي قبله، وإن كان فيه زيادة في القصة. *3* الشرح: قوله (باب إذا أنزل الله بقوم عذابا) حذف الجواب اكتفاء بما وقع في الحديث. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ الشرح: قوله (عبد الله بن عثمان) هو عبدان، وعبد الله شيخه هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد. قوله (إذا أنزل الله بقوم عذابا) أي عقوبة لهم على سيئ أعمالهم. قوله (أصاب العذاب من كان فيهم) في رواية أبي النعمان عن ابن المبارك " أصاب به من بين أظهرهم " أخرجه الإسماعيلي، والمراد من كان فيهم ممن ليس هو على رأيهم. قوله (ثم بعثوا على أعمالهم) أي بعث كل واحد منهم على حسب عمله إن كان صالحا فعقباه صالحة وإلا فسيئة، فيكون ذلك العذاب طهرة للصالحين ونقمة على الفاسقين. وفي صحيح ابن حبان عن عائشة مرفوعا " إن الله إذا أنزل سطوته بأهل نقمته وفيهم الصالحون قبضوا معهم ثم بعثوا على نياتهم وأعمالهم " وأخرجه البيهقي في " الشعب " وله من طريق الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب عنها مرفوعا " إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأسه فيهم، قيل: يا رسول الله وفيهم أهل طاعته؟ قال: نعم، ثم يبعثون إلى رحمة الله تعالى " قال ابن بطال: هذا الحديث يبين حديث زينب بنت جحش حيث قالت " أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث " فيكون إهلاك الجميع عند ظهور المنكر والإعلان بالمعاصي. قلت: الذي يناسب كلامه الأخير حديث أبي بكر الصديق " سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب " أخرجه الأربعة وصححه ابن حبان، وأما حديث ابن عمر في الباب وحديث زينب بنت جحش فمتناسبان، وقد أخرجه مسلم عقبه، ويجمعهما أن الهلاك يعم الطائع مع العاصي، وزاد حديث ابن عمر أن الطائع عند البعث يجازي بعمله، ومثله حديث عائشة مرفوعا " العجب أن ناسا من أمتي يؤمون هذا البيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم، فقلنا: يا رسول الله إن الطريق قد تجمع الناس، قال: نعم فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم " أخرجه مسلم. وله من حديث أم سلمة نحوه ولفظه " فقلت يا رسول الله فكيف بمن كان كارها؟ قال: يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته " وله من حديث جابر رفعه " يبعث كل عبد على ما مات عليه " وقال الداودي: معنى حديث ابن عمر أن الأمم التي تعذب على الكفر يكون بينهم أهل أسواقهم ومن ليس منهم فيصاب جميعهم بآجالهم ثم يبعثون على أعمالهم، ويقال إذا أراد الله عذاب أمة أعقم نساءهم خمس عشرة سنة قبل أن يصابوا لئلا يصاب الولدان الذين لم يجر عليهم القلم انتهى. وهذا ليس له أصل وعموم حديث عائشة يرده، وقد شوهدت السفينة ملأى من الرجال والنساء والأطفال تغرق فيهلكون جميعا، ومثله الدار الكبيرة تحرق، والرفقة الكثيرة تخرج عليها قطاع الطريق فيهلكون جميعا أو أكثرهم، والبلد من بلاد المسلمين يهجمها الكفار فيبذلون السيف في أهلها، وقد وقع ذلك من الخوارج قديما ثم من القرامطة ثم من الططر أخيرا والله المستعان. قال القاضي عياض: أورد مسلم حديث جابر " يبعث كل عبد على ما مات عليه " تعقب حديث جابر أيضا رفعه " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله " يشير إلى أنه مفسر له، ثم أعقبه بحديث " ثم بعثوا على أعمالهم " مشيرا إلى أنه وإن كان مفسرا لما قبله لكنه ليس مقصورا عليه بل هو عام فيه وفي غيره، ويؤيده الحديث الذي ذكره بعده " ثم يبعثهم الله على نياتهم " انتهى ملخصا. والحاصل أنه لا يلزم من الاشتراك في الموت الاشتراك في الثواب أو العقاب بل يجازي كل أحد بعمله على حسب نيته. وجنح ابن أبي جمرة إلى أن الذين يقع لهم ذلك إنما يقع بسبب سكوتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما من أمر ونهى فهم المؤمنون حقا لا يرسل الله عليهم العذاب بل يدفع بهم العذاب، ويؤيده قوله تعالى وأما بعثهم على أعمالهم فحكم عدل لأن أعمالهم الصالحة إنما يجازون بها في الآخرة، وأما في الدنيا فمهما أصابهم من بلاء كان تكفيرا لما قدموه من عمل سيئ، فكان العذاب المرسل في الدنيا على الذين ظلموا يتناول من كان معهم ولم ينكر عليهم فكان ذلك جزاء لهم على مداهنتهم، ثم يوم القيامة يبعث كل منهم فيجازى بعمله. وفي الحديث تحذير وتخويف عظيم لمن سكت عن النهي، فكيف بمن داهن، فكيف بمن رضي، فكيف بمن عاون؟ نسأل الله السلامة. قلت: ومقتضى كلامه أن أهل الطاعة لا يصيبهم العذاب في الدنيا بجريرة العصاة، وإلى ذلك جنح القرطبي في " التذكرة " وما قدمناه قريبا أشبه بظاهر الحديث. وإلى نحوه مال القاضي ابن العربي، وسيأتي ذلك في الكلام على حديث زينب بنت جحش " أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث " في آخر كتاب الفتن.
*3* الشرح: قوله (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي: إن ابني هذا لسيد) في رواية المروزي والكشميهني " سيد " بغير لام وكذا لهم في مثل هذه الترجمة في كتاب الصلح وبحذف إن وساق المتن هناك بلفظ " إن ابني هذا سيد " وساقه هنا بحذفها فأشار في كل من الموضعين إلى ما وقع في الآخر، وقد أخرجه هناك عن عبد الله بن محمد عن سفيان بتمامه، ثم نقل عن علي بن عبد الله ما يتعلق بسماع الحسن من أبي بكرة وساقه هنا عن علي بن عبد الله فلم يذكر ذلك ولم أر في شيء من طرق المتن " لسيد " باللام كما وقع في هذه الترجمة، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية سبعة أنفس عن سفيان بن عيينة وبين اختلاف ألفاظهم وذكر في الباب الحديث المذكور وحديثا لأسامة بن زيد. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ أَبُو مُوسَى وَلَقِيتُهُ بِالْكُوفَةِ وَجَاءَ إِلَى ابْنِ شُبْرُمَةَ فَقَالَ أَدْخِلْنِي عَلَى عِيسَى فَأَعِظَهُ فَكَأَنَّ ابْنَ شُبْرُمَةَ خَافَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ لَمَّا سَارَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالْكَتَائِبِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ أَرَى كَتِيبَةً لَا تُوَلِّي حَتَّى تُدْبِرَ أُخْرَاهَا قَالَ مُعَاوِيَةُ مَنْ لِذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ أَنَا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ نَلْقَاهُ فَنَقُولُ لَهُ الصُّلْحَ قَالَ الْحَسَنُ وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ جَاءَ الْحَسَنُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الشرح: قوله (حدثنا إسرائيل أبو موسى) هي كنية إسرائيل واسم أبيه موسى فهو ممن وافقت كنيته اسم أبيه فيؤمن فيه من التصحيف، وهو بصري كان يسافر في التجارة إلى الهند وأقام بها مدة. قوله (ولقيته بالكوفة) قائل ذلك هو سفيان بن عيينة والجملة حالية. قوله (وجاء إلى ابن شبرمة) هو عبد الله قاضي الكوفة في خلافة أبي جعفر المنصور ومات في خلافته سنة أربع وأربعين ومائة وكان صارما عفيفا ثقة فقيها. قوله (فقال أدخلني على عيسى فأعظه) بفتح الهمزة وكسر العين المهملة وفتح الظاء المشالة من الوعظ، وعيسى هو ابن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ابن أخي المنصور وكان أميرا على الكوفة إذ ذاك. قوله (فكأن) بالتشديد (ابن شبرمة خاف عليه) أي على إسرائيل (فلم يفعل) أي فلم يدخله على عيسى بن موسى، ولعل سبب خوفه عليه أنه كان صادعا بالحق فخشي أنه لا يتلطف بعيسى فيبطش به لما عنده من غرة الشباب وغرة الملك، قال ابن بطال: دل ذلك من صنيع ابن شبرمة على أن من خاف على نفسه سقط عنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانت وفاة عيسى المذكور في خلافة المهدي سنة ثمان وستين ومائة. قوله (قال حدثنا الحسن) يعني البصري والقائل " حدثنا " هو إسرائيل المذكور، قال البزار في مسنده بعد أن أخرج هذا الحديث عن خلف بن خليفة عن سفيان بن عيينة: لا نعلم رواه عن إسرائيل غير سفيان، وتعقبه مغلطاي بأن البخاري أخرجه في علامات النبوة من طريق حسين بن علي الجعفي عن أبي موسى وهو إسرائيل هذا، وهو تعقب جيد ولكن لم أر فيه القصة وإنما أخرج فيه الحديث المرفوع فقط. قوله (لما سار الحسن بن علي إلى معاوية بالكتائب) في رواية عبد الله بن محمد عن سفيان في كتاب الصلح " استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال " والكتائب بمثناة وآخره موحدة جمع كتيبة بوزن عظيمة وهي طائفة من الجيش تجتمع وهي فعيلة بمعنى مفعولة لأن أمير الجيش إذا رتبهم وجعل كل طائفة على حدة كتبهم في ديوانه كذلك، ذكر ذلك ابن التين عن الداودي، ومنه قيل: مكتب بني فلان، قال وقوله " أمثال الجبال " أي لا يرى لها طرف لكثرتها كما لا يرى من قابل الجبل طرفه، ويحتمل أن يريد شدة البأس. وأشار الحسن البصري بهذه القصة إلى ما اتفق بعد قتل علي رضي الله عنه، وكان علي لما انقضى أمر التحكيم ورجع إلى الكوفة تجهز لقتال أهل الشام مرة بعد أخرى فشغله أمر الخوارج بالنهروان كما تقدم وذلك في سنة ثمان وثلاثين، ثم تجهز في سنة تسع وثلاثين فلم يتهيأ ذلك لافتراق آراء أهل العراق عليه، ثم وقع الجد منه في ذلك في سنة أربعين فأخرج إسحاق من طريق عبد العزيز بن سياه بكسر المهملة وتخفيف الياء آخر الحروف قال: لما خرج الخوارج قام علي فقال: أتسيرون إلى الشام أو ترجعون إلى هؤلاء الذين خلفوكم في دياركم؟ قالوا: بل نرجع إليهم، فذكر قصة الخوارج قال فرجع علي إلى الكوفة، فلما قتل واستخلف الحسن وصالح معاوية كسب إلى قيس بن سعد بذلك فرجع عن قتال معاوية. وأخرج الطبري بسند صحيح عن يونس ابن يزيد عن الزهري قال: جعل علي على مقدمة أهل العراق قيس بن سعد بن عبادة وكانوا أربعين ألفا بايعوه على الموت، فقتل علي فبايعوا الحسن بن علي بالخلافة، وكان لا يحب القتال ولكن كان يريد أن يشترط على معاوية لنفسه، فعرف أن قيس بن سعد لا يطاوعه على الصلح فنزعه وأمر عبد الله بن عباس فاشترط لنفسه كما اشترط الحسن. وأخرج الطبري والطبراني من طريق إسماعيل بن راشد قال: بعث الحسن قيس بن سعد على مقدمته في اثني عشر ألفا - يعني من الأربعين - فسار قيس إلى جهة الشام. وكان معاوية لما بلغه قتل علي خرج في عساكر من الشام، وخرج الحسن بن علي حتى نزل المدائن، فوصل معاوية إلى مسكن وقال ابن بطال: ذكر أهل العلم بالأخبار أن عليا لما قتل سار معاوية يريد العراق وسار الحسن يريد الشام فالتقيا بمنزل من أرض الكوفة، فنظر الحسن إلى كثرة من معه فنادى: يا معاوية إني اخترت ما عند الله، فإن يكن هذا الأمر لك فلا ينبغي لي أن أنازعك فيه وإن يكن لي فقد تركته لك فكبر أصحاب معاوية. وقال المغيرة عند ذلك: أشهد أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إن ابني هذا سيد " الحديث وقال في آخره: فجزاك الله عن المسلمين خيرا انتهى وفي صحة هذا نظر من أوجه: الأول أن المحفوظ أن معاوية هو الذي بدأ بطلب الصلح كما في حديث الباب الثاني أن الحسن ومعاوية لم يتلاقيا بالعسكرين حتى يمكن أن يتخاطبا وإنما تراسلا، فيحمل قوله " فنادى يا معاوية " على المراسلة، ويجمع بأن الحسن راسل معاوية بذلك سرا فراسله معاوية جهرا، والمحفوظ أن كلام الحسن الأخير إنما وقع بعد الصلح والاجتماع كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي في " الدلائل " من طريقه ومن طريق غيره بسندهما إلى الشعبي قال: لما صالح الحسن بن علي معاوية؛ قال له معاوية قم فتكلم، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن أكيس الكيس التقى وإن أعجز العجز الفجور، ألا وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية حق لامرئ كان أحق به مني، أو حق لي تركته لإرادة إصلاح المسلمين وحقن دمائهم، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين. ثم استغفر ونزل. وأخرج يعقوب بن سفيان ومن طريقه أيضا البيهقي في " الدلائل " من طريق الزهري فذكر القصة وفيها: فخطب معاوية ثم قال: قم يا حسن فكلم الناس، فتشهد ثم قال: أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة والدنيا دول. وذكر بقية الحديث. والثالث أن الحديث لأبي بكرة لا للمغيرة، لكن الجمع ممكن بأن يكون المغيرة حدث به عندما سمع مراسلة الحسن بالصلح وحدث به أبو بكرة بعد ذلك، وقد روى أصل الحديث جابر أورده الطبراني والبيهقي في " الدلائل " من فوائد يحيى بن معين بسند صحيح إلى جابر، وأورده الضياء في " الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين " وعجبت للحاكم في عدم استدراكه مع شدة حرصه على مثله، قال ابن بطال: سلم الحسن لمعاوية الأمر وبايعه على إقامة كتاب الله وسنة نبيه، ودخل معاوية الكوفة وبايعه الناس فسميت سنة الجماعة لاجتماع الناس وانقطاع الحرب. وبايع معاوية كل من كان معتزلا للقتال كابن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد ابن مسلمة، وأجاز معاوية الحسن بثلاثمائة ألف وألف ثوب وثلاثين عبدا ومائة جمل، وانصرف إلى المدينة، وولى معاوية الكوفة المغيرة بن شعبة والبصرة عبد الله بن عامر ورجع إلى دمشق. قوله (قال عمرو بن العاص لمعاوية: أرى كتيبة لا تولى) بالشديد أي لا تدبر. قوله (حتى تدبر أخراها) أي التي تقابلها، ونسبها إليها لتشاركهما في المحاربة، وهذا على أن يدبر من أدبر رباعيا، ويحتمل أن يكون من دبر يدبر بفتح أوله وضم الموحدة أي يقوم مقامها يقال دبرته إذا بقيت بعده، وتقدم في رواية عبد الله بن محمد في الصلح " إني لأرى كتائب لا تولى حتى تقتل أقرانها " وهي أبين، قال عياض: هي الصواب، ومقتضاه أن الأخرى خطأ وليس كذلك بل توجيهها ما تقدم. وقال الكرماني: يحتمل أيضا أن تراد الكتيبة الأخيرة التي هي من جملة تلك الكتائب، أي لا ينهزمون بأن ترجع الأخرى أولى. قوله (قال معاوية من لذراري المسلمين) أي من يكفلهم إذا قتل آباؤهم؟ زاد في الصلح " فقال له معاوية وكان والله خير الرجلين - يعني معاوية -: أي عمرو إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم " يشير إلى أن رجال العسكرين معظم من في الإقليمين فإذا قتلوا ضاع أمر الناس وفسد حال أهلهم بعدهم وذراريهم، والمراد بقوله " ضيعتهم " الأطفال والضعفاء سموا باسم ما يؤول إليه أمرهم لأنهم إذا تركوا ضاعوا لعدم استقلالهم بأمر المعاش. وفي رواية الحميدي عن سفيان في هذه القصة " من لي بأمورهم، من لي بدمائهم، من لي بنسائهم " وأما قوله هنا في جواب قول معاوية " من لذراري المسلمين؟ فقال: أنا " فظاهره يوهم أن المجيب بذلك هو عمرو بن العاص، ولم أر في طرق الخبر ما يدل على ذلك، فإن كانت محفوظة فلعلها كانت " فقال أني " بتشديد النون المفتوحة قالها عمرو على سبيل الاستبعاد. وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري قال " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في بعث ذات السلاسل " فذكر أخبارا كثيرة من التاريخ إلى أن قال " وكان قيس بن سعد ابن عبادة على مقدمة الحسن بن علي، فأرسل إليه معاوية سجلا قد ختم في أسفله فقال: اكتب فيه ما تريد فهو لك، فقال له عمرو بن العاص: بل نقاتله، فقال معاوية - وكان خير الرجلين -: على رسلك يا أبا عبد الله، لا تخلص إلى قتل هؤلاء حتى يقتل عددهم من أهل الشام، فما خير الحياة بعد ذلك؟ وإني والله لا أقاتل حتى لا أجد من القتال بدا. قوله (فقال عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة: نلقاه فنقول له الصلح) أي تشير عليه بالصلح، وهذا ظاهره أنهما بدا بذلك، والذي تقدم في كتاب الصلح أن معاوية هو الذي بعثهما، فيمكن الجمع بأنهما عرضا أنفسهما فوافقهما ولفظه هناك " فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس " أي ابن عبد مناف بن قصي " عبد الرحمن بن سمرة " زاد الحميدي في مسنده عن سفيان بن حبيب بن عبد شمس " قال سفيان وكانت له صحبة " قلت: وهو راوي حديث " لا تسأل الإمارة " وسيأتي شيء من خبره في كتاب الأحكام. وعبد الله بن عامر بن كريز بكاف وراء ثم زاي مصغر زاد الحميدي " ابن حبيب بن عبد شمس " وقد مضى له ذكر في كتاب الحج وغيره، وهو الذي ولاه معاوية البصرة بعد الصلح، وبنو حبيب ابن عبد شمس بنو عم بني أمية بن عبد شمس، ومعاوية هو ابن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية (فقال معاوية: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه) أي ما شاء من المال (وقولا له) أي في حقن دماء المسلمين بالصلح (واطلبا إليه) أي اطلبا منه خلعه نفسه من الخلافة وتسليم الأمر لمعاوية وابذلا له في مقابلة ذلك ما شاء (قال فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها، قالا فإنه يعرض عليك كذا وكذا ويطلب إليك ويسألك، قال فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به فما سألهما شيئا إلا قالا نحن لك به، فصالحه) قال ابن بطال: هذا يدل على أن معاوية كان هو الراغب في الصلح وأنه عرض على الحسن المال ورغبه فيه وحثه على رفع السيف وذكره ما وعده به جده صلى الله عليه وسلم من سيادته في الإصلاح به، فقال له الحسن: إنا بنو عبد المطلب أصبنا من هذا المال، أي إنا جبلنا على الكرم والتوسعة على أتباعنا من الأهل والموالى وكنا نتمكن من ذلك بالخلافة حتى صار ذلك لنا عادة وقوله إن هذه الأمة أي العسكرين الشامي والعراقي " قد عاثت " بالمثلثة أي قتل بعضها بعضا فلا يكفون عن ذلك إلا بالصفح عما مضى منهم والتألف بالمال. وأراد الحسن بذلك كله تسكين الفتنة وتفرقة المال على من لا يرضيه إلا المال، فوافقاه على ما شرط من جميع ذلك والتزما له من المال في كل عام والثياب والأقوات ما يحتاج إليه لكل من ذكر. وقوله "من لي بهذا " أي من يضمن لي الوفاء من معاوية؟ فقالا: نحن نضمن لأن معاوية كان فوض لهما ذلك، ويحتمل أن يكون قوله " أصبنا من هذا المال " أي فرقنا منه في حياة علي وبعده ما رأينا في ذلك صلاحا فنبه على ذلك خشية أن يرجع عليه بما تصرف فيه. وفي رواية إسماعيل ابن راشد عند الطبري " فبعث إليه معاوية عبد الله بن عامر وعبد الله بن سمرة بن حبيب " كذا قال عبد الله وكذا وقع عند الطبراني، والذي في الصحيح أصح، ولعل عبد الله كان مع أخيه عبد الرحمن، قال فقدما على الحسن بالمدائن فأعطياه ما أراد وصالحاه على أن يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة آلاف ألف في أشياء اشترطها. ومن طريق عوانة بن الحكم نحوه وزاد وكان الحسن صالح معاوية على أن يجعل له ما في بيت مال الكوفة وأن يكون له خراج دار أبجرد، وذكر محمد بن قدامة في " كتاب الخوارج " بسند قوي إلى أبي بصرة أنه سمع الحسن بن علي يقول في خطبته عند معاوية إني اشترطت على معاوية لنفسي الخلافة بعده. وأخرج يعقوب بن سفيان بسند صحيح إلى الزهري قال: كاتب الحسن بن علي معاوية واشترط لنفسه فوصلت الصحيفة لمعاوية وقد أرسل إلى الحسن يسأله الصلح ومع الرسول صحيفة بيضاء مختوم على أسفلها وكتب إليه أن اشترط ما شئت فهو لك، فاشترط الحسن أضعاف ما كان سأل أولا، فلما التقيا وبايعه الحسن سأله أن يعطيه ما اشترط في السجل الذي ختم معاوية في أسفله فتمسك معاوية إلا ما كان الحسن سأله أولا، واحتج بأنه أجاب سؤاله أول ما وقف عليه فاختلفا في ذلك فلم ينفذ للحسن من الشرطين شيء. وأخرج ابن أبي خيثمة من طريق عبد الله بن شوذب قال: لما قتل علي سار الحسن بن علي في أهل العراق ومعاوية في أهل الشام فالتقوا، فكره الحسن القتال وبايع معاوية على أن يجعل العهد للحسن من بعده فكان أصحاب الحسن يقولون له يا عار المؤمنين فيقول العار خير من النار. قوله (قال الحسن) هو البصري وهو موصول بالسند المتقدم ووقع في رجال البخاري لأبي الوليد الباجي في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب ما نصه " أخرج البخاري قول الحسن سمعت أبا بكرة " فتأوله الدار قطني وغيره على أنه الحسن بن علي لأن الحسن البصري عندهم لم يسمع من أبي بكرة، وحمله ابن المديني والبخاري على أنه الحسن البصري، قال الباجي: وعندي أن الحسن الذي قال " سمعت هذا من أبي بكرة " إنما هو الحسن بن علي انتهى، وهو عجيب منه فإن البخاري قد أخرج متن هذا الحديث في علامات النبوة مجردا عن القصة من طريق حسين بن علي الجعفي عن أبي موسى - وهو إسرائيل بن موسى - عن الحسن عن أبي بكرة، وأخرجه البيهقي في " الدلائل " من رواية مبارك بن فضالة ومن رواية علي بن زيد كلاهما عن الحسن عن أبي بكرة وزاد في آخره " قال الحسن: فلما ولى ما أهريق في سببه محجمة دم " فالحسن القائل هو البصري، والذي ولى هو الحسن بن علي، وليس للحسن بن علي في هذا رواية، وهؤلاء الثلاثة - إسرائيل ابن موسى ومبارك بن فضالة وعلي بن زيد - لم يدرك واحد منهم الحسن بن علي، وقد صرح إسرائيل بقوله " سمعت الحسن " وذلك فيما أخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن الصلت بن مسعود عن سفيان ابن عيينة عن أبي موسى وهو إسرائيل " سمعت الحسن سمعت أبا بكرة " وهؤلاء كلهم من رجال الصحيح، والصلت من شيوخ مسلم، وقد استشعر ابن التين خطأ الباجي فقال: قال الداودي الحسن مع قربه من النبي صلى الله عليه وسلم بحيث توفى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع سنين لا يشك في سماعه منه وله مع ذلك صحبة. قال ابن التين: الذي في البخاري إنما أراد سماع الحسن بن أبي الحسن البصري من أبي بكرة. قلت: ولعل الداودي إنما أراد رد توهم من يتوهم أنه الحسن بن علي فدفعه بما ذكر وهو ظاهر وإنما قال ابن المديني ذلك لأن الحسن كان يرسل كثيرا عمن لم يلقهم بصيغة " عن " فخشي أن تكون روايته عن أبي بكرة مرسلة فلما جاءت هذه الرواية مصرحة بسماعه من أبي بكرة ثبت عنده أنه سمعه منه، ولم أر ما نقله الباجي عن الدار قطني من أن الحسن هنا هو ابن علي في شيء من تصانيفه، وإنما قال في " التتبع لما في الصحيحين ": أخرج البخاري أحاديث عن الحسن عن أبي بكرة، والحسن إنما روى عن الأحنف عن أبي بكرة، وهذا يقتضي أنه عنده لم يسمع من أبي بكرة، لكن لم أر من صرح بذلك ممن تكلم في مراسيل الحسن كابن المديني وأبي حاتم وأحمد والبزار وغيرهم، نعم كلام ابن المديني يشعر بأنهم كانوا يحملونه على الإرسال حتى وقع هذا التصريح. قوله (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب جاء الحسن فقال) وقع في رواية علي بن زيد عن الحسن في " الدلائل " للبيهقي " يخطب أصحابه يوما إذ جاء الحسن بن علي فصعد إليه المنبر " وفي رواية عبد الله ابن محمد المذكورة " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول " ومثله في رواية ابن أبي عمر عن سفيان لكن قال " وهو يلتفت إلى الناس مرة وإليه أخرى". قوله (ابني هذا سيد) في رواية عبد الله بن محمد " إن ابني هذا سيد " وفي رواية مبارك بن فضالة " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضم الحسن بن علي إليه وقال: إن ابني هذا سيد " وفي رواية علي ابن زيد " فضمه إليه وقال: ألا إن ابني هذا سيد". قوله (ولعل الله أن يصلح به) كذا استعمل " لعل " استعمال عسى لاشتراكهما في الرجاء، والأشهر في خبر " لعل " بغير " أن " كقوله تعالى قوله (بين فئتين من المسلمين) زاد عبد الله بن محمد في روايته " عظيمتين " وكذا في رواية مبارك ابن فضالة وفي رواية علي بن زيد كلاهما عن الحسن عند البيهقي. وأخرج من طريق أشعث بن عبد الملك عن الحسن كالأول لكنه قال " وإني لأرجو أن يصلح الله به " وجزم في حديث جابر ولفظه عند الطبراني والبيهقي " قال للحسن: إن ابني هذا سيد يصلح الله به بين فئتين من المسلمين " قال البزار: روى هذا الحديث عن أبي بكرة وعن جابر، وحديث أبي بكرة أشهر وأحسن إسنادا، وحديث جابر غريب. وقال الدار قطني: اختلف على الحسن فقيل عنه عن أم سلمة، وقيل عن ابن عيينة عن أيوب عن الحسن، وكل منهما وهم. ورواه داود بن أبي هند وعوف الأعرابي عن الحسن مرسلا. وفي هذه القصة من الفوائد علم من أعلام النبوة، ومنقبة للحسن بن علي فإنه ترك الملك لا لقلة ولا لذلة ولا لعلة بل لرغبته فيما عند الله لما رآه من حقن دماء المسلمين، فراعى أمر الدين ومصلحة الأمة. وفيها رد على الخوارج الذين كانوا يكفرون عليا ومن معه ومعاوية ومن معه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم للطائفتين بأنهم من المسلمين، ومن ثم كان سفيان ابن عيينة يقول عقب هذا الحديث: قوله " من المسلمين " يعجبنا جدا أخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه عن الحميدي وسعيد بن منصور عنه. وفيه فضيلة الإصلاح بين الناس ولا سيما في حقن دماء المسلمين، ودلالة على رأفة معاوية بالرعية، وشفقته على المسلمين، وقوة نظره في تدبير الملك، ونظره في العواقب. وفيه ولاية المفضول الخلافة مع وجود الأفضل لأن الحسن ومعاوية ولى كل منهما الخلافة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد في الحياة وهما بدريان قاله ابن التين. وفيه جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأى في ذلك صلاحا للمسلمين والنزول عن الوظائف الدينية والدنيوية بالمال، وجواز أخذ المال على ذلك وإعطائه بعد استيفاء شرائطه بأن يكون المنزول له أولى من النازل وأن يكون المبذول من مال الباذل. فإن كان في ولاية عامة وكان المبذول من بيت المال اشترط أن تكون المصلحة في ذلك عامة، أشار إلى ذلك ابن بطال قال: يشترط أن يكون لكل من الباذل والمبذول له سبب في الولاية يستند إليه، وعقد من الأمور يعول عليه. وفيه أن السيادة لا تختص بالأفضل بل هو الرئيس على القوم والجمع سادة، وهو مشتق من السؤدد وقيل من السواد لكونه يرأس على السواد العظيم من الناس أي الأشخاص الكثيرة وقال المهلب الحديث دال على أن السيادة إنما يستحقها من ينتفع به الناس، لكونه علق السيادة بالإصلاح. وفيه إطلاق الابن علي ابن البنت، وقد انعقد الإجماع على أن امرأة الجد والد الأم محرمة على ابن بنته، وأن امرأة ابن البنت محرمة على جده، وإن اختلفوا في التوارث. واستدل به على تصويب رأي من قعد عن القتال مع معاوية وعلي وإن كان علي أحق بالخلافة وأقرب إلى الحق، وهو قول سعد بن أبي وقاص وابن عمر ومحمد بن مسلمة وسائر من اعتزل تلك الحروب. وذهب جمهور أهل السنة إلى تصويب من قاتل مع علي لامتثال قوله تعالى الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ عَمْرٌو أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَنَّ حَرْمَلَةَ مَوْلَى أُسَامَةَ أَخْبَرَهُ قَالَ عَمْرٌو قَدْ رَأَيْتُ حَرْمَلَةَ قَالَ أَرْسَلَنِي أُسَامَةُ إِلَى عَلِيٍّ وَقَالَ إِنَّهُ سَيَسْأَلُكَ الْآنَ فَيَقُولُ مَا خَلَّفَ صَاحِبَكَ فَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ لَوْ كُنْتَ فِي شِدْقِ الْأَسَدِ لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِيهِ وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَرَهُ فَلَمْ يُعْطِنِي شَيْئًا فَذَهَبْتُ إِلَى حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ وَابْنِ جَعْفَرٍ فَأَوْقَرُوا لِي رَاحِلَتِي الشرح: قوله (سفيان) هو ابن عيينة. قوله (قال قال عمرو) هو ابن دينار. قوله (أخبرني محمد بن علي) أي ابن الحسن بن علي وهو أبو جعفر الباقر. وفي رواية محمد بن عباد عند الإسماعيلي عن سفيان " عن عمرو عن أبي جعفر". قوله (أن حرملة قال) في رواية محمد بن عباد " أن حرملة مولى أسامة أخبره " وحرملة هذا في الأصل مولى أسامة بن زيد، وكان يلازم زيد بن ثابت حتى صار يقال له مولى زيد بن ثابت، وقيل هما اثنان. وفي هذا السند ثلاثة من التابعين في نسق: عمرو وأبو جعفر وحرملة. قوله (أن عمرو) ابن دينار (قال قد رأيت حرملة) فيه إشارة إلى أن عمرا كان يمكنه الأخذ عن حرملة لكنه لم يسمع منه هذا. قوله (أرسلني أسامة) أي من المدينة (إلى علي) أي بالكوفة، لم يذكر مضمون الرسالة ولكن دل مضمون قوله " فلم يعطني شيئا " على أنه كان أرسله يسأل عليا شيئا من المال. قوله (وقال إنه سيسألك الآن فيقول: ما خلف صاحبك إلخ) هذا هيأه أسامة اعتذارا عن تخلفه عن علي لعلمه أن عليا كان ينكر على من تخلف عنه ولا سيما مثل أسامة الذي هو من أهل البيت، فاعتذر بأنه لم يتخلف ضنا منه بنفسه عن علي ولا كراهة له، وأنه لو كان في أشد الأماكن هو لا لأحب أن يكون معه فيه ويواسيه بنفسه، ولكنه إنما تخلف لأجل كراهيته في قتل المسلمين، وهذا معنى قوله " ولكن هذا أمر لم أره". قوله (لو كنت في شدق الأسد) بكسر المعجمة ويجوز فتحها وسكون الدال المهملة بعدها قاف أي جانب فمه من داخل، ولكل فم شدقان إليهما ينتهي شق الفم وعند مؤخرهما ينتهي الحنك الأعلى والأسفل، ورجل أشدق واسع الشدقين، ويتشدق في كلامه إذا فتح فمه وأكثر القول فيه واتسع فيه، وهو كناية عن الموافقة حتى في حالة الموت، لأن الذي يفترسه الأسد بحيث يجعله في شدقه في عداد من هلك، ومع ذلك فقال: لو وصلت إلى هذا المقام لأحببت أن أكون معك فيه مواسيا لك بنفسي. ومن المناسبات اللطيفة تمثيل أسامة بشيء يتعلق بالأسد. ووقع في " تنقيح الزركشي " أن القاضي - يعني عياضا - ضبط الشدق بالذال المعجمة قال: وكلام الجوهري يقتضي أنه بالدال المهملة. وقال لي بعض من لقيته من الأئمة: إنه غلط على القاضي، قلت: وليس كذلك فإنه ذكره في " المشارق " في الكلام على حديث سمرة الطويل في الذي يشرشر شدقه فإنه ضبط الشدق بالذال المعجمة، وتبعه ابن قرقول في " المطالع". نعم هو غلط فقد ضبط في جميع كتب اللغة بالدال المهملة والله أعلم. قال ابن بطال: أرسل أسامة إلى علي يعتذر عن تخلفه عنه في حروبه، ويعلمه أنه من أحب الناس إليه، وأنه يحب مشاركته في السراء والضراء، إلا أنه لا يرى قتال المسلم، قال: والسبب في ذلك أنه لما قتل ذلك الرجل - يعني الماضي ذكره في " باب ومن أحياها " في أوائل الديات ولامه النبي صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك، آلى على نفسه أن لا يقاتل مسلما. فذلك سبب تخلفه عن علي في الجمل وصفين انتهى ملخصا. وقال ابن التين: إنما منع عليا أن يعطى رسول أسامة شيئا لأنه لعله سأله شيئا من مال الله فلم ير أن يعطيه لتخلفه عن القتال معه، وأعطاه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر لأنهم كانوا يرونه واحدا منهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلسه على فخذه ويجلس الحسن على الفخذ الآخر ويقول " اللهم إني أحبهما " كما تقدم في مناقبه. قوله (فلم يعطني شيئا) هذه الفاء هي الفصيحة والتقدير فذهبت إلى علي فبلغته ذلك فلم يعطني شيئا. ووقع في رواية ابن أبي عمر عن سفيان عند الإسماعيلي " فجئت بها - أي المقالة - فأخبرته فلم يعطني شيئا". قوله (فذهبت إلى حسن وحسين وابن جعفر فأوقروا لي راحلتي) أي حملوا لي على راحلتي ما أطاقت حمله، ولم يعين في هذه الرواية جنس ما أعطوه ولا نوعه، والراحلة التي صلحت للركوب من الإبل ذكرا كان أو أنثى، وأكثر ما يطلق الوقر وهو بالكسر على ما يحمل البغل والحمار، وأما حمل البعير فيقال له الوسق، وابن جعفر هو عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وصرح بذلك في رواية محمد بن عباد وابن أبي عمر المذكورة، وكأنهم لما علموا أن عليا لم يعطه شيئا عوضوه من أموالهم من ثياب ونحوها قدر ما تحمله راحلته التي هو راكبها.
|